روايات الدكتور محمد عباس تبشر بثورة يناير
في العدد 302 من مجلة المختار الإسلامي الصادر في أكتوبر 2007 نشرت قصة: “حفل إفطار رمضاني” للدكتور محمد عباس، وكان أبرز ما فيها ذلك التنبؤ الفذ بما سيحدث بعد سنوات من ثورة في يناير 2011، حتى في بعض التفاصيل الصغيرة، مثل وقوع أحداثها في ميدان التحرير، الذي أسماه الثوار -بحسب القصة- “ميدان الشهداء”، وأن ثروة الرئيس الهارب تقدر ب “سبعين مليار دولار”. تمامًا مثلما قدرت بعد الثورة، وأن قوات الأمن الحارسة للنظام سوف تنهار، وتنسحب من الميدان، بعدما يتخلى أفرادها عن ملابسهم العسكرية، ويرتدون ملابس مدنية، لينجوا من غضب الشارع الثائر، وأن النظام سيلجأ إلى الاستعادة بالبلطجية ممن ادخرهم لمثل ذلك اليوم. وأن الطاغية سيفر بعدما تضاعف حشد الشارع، ووصل إلى عشرة ملايين.
وكانت بداية القصة التي حكاها جد لحفيده – بعد سنين من حدوثها – سنة 2077، لما دعا الإخوان المسلمون إلى إفطارهم السنوي الرمضاني في ميدان التحرير، وحضرة عشرة آلاف مدعو.. ثم تضاعفت أعدادهم إلى 100 ألف أو يزيدون، ينادون بسقوط الحاكم ورحيله، وصلت الأعداد في صبيحة اليوم التالي إلى ملايين، عجزت الشرطة عن تفريقهم، وبدأ اعتصامهم في الميادين، حتى نجحت الثورة وفر الطاغية.
الرواية تطابق ما حدث إلى حد كبير، وتعطي دلالة قاطعة على قدرة الأديب على اختراق آفاق المستقبل على نحو بديع، ونشير هنا إلى النقطة الفارقة التي حادت فيها القصة عن واقع الثورة، إذ حددت تاريخا سنة 2019، وليس 2011!
———–
أما روايته الرائعة “بروتوكولات حكماء العرب“؛ فيصفها الأستاذ محمد يوسف العدس في مقدمته النقدية البليغة التي كتبها للرواية؛ فلم تنشر لأسباب تعود إلى ظروف النشر، بأنها “أهم وأروع رواية عربية أُلّفَتْ في نصف القرن الأخير”.. وقد شرع كاتبها في نشر حلقاتها في الصحف ابتداءً من سنة ٢٠٠٠م، أي في عصر مبارك، والرواية تلقى ضوءًا كاشفًا على الأوضاع الراهنة، كأنها قد وُضعت خصيصًا لتعميق فهمنا لما يحدث الآن. وإحدى خصوصيات هذه الرواية المتفرِّدة هو استخدام الإيهام بطريقة عبقرية تكتيكًا فنيًّا للدفاع والهجوم والمراوغة في آن واحد؛ مراعاة لظروف القهر السياسي آنذاك، ولحدة مضمونها، والرسالة التي تريد إيصالها، وخلاصتها أن الأمر لا يمكن السكوت عليه، وأن ثورة شعبية تلوح في الأفق البعيد، لا مفرَّ منها، وأن المسألة هي مسألة حياة أو موت، مسألة وجودية؛ فإما أن يستمر هذا النظام في الحياة ويموت الشعب، وإما أن يهبَّ الشعب ليستخلص وجوده ويقضى على النظام.. وليس هناك اختيار ثالث.
وهنا يستخدم المؤلف تكتيك الحلم برموزه وتهويماته اللامنطقية درْعًا واقيًا لامتصاص الصواعق المحتملة من قِبَلِ السلطة الغاشمة، ويأتي في هذا السياق، إيراد أسوأ الأخبار على ألسنة الآخرين، وبث النوادر والفكاهات الّلاذعة الساخرة في ثنايا الرواية على سبيل التمويه، ولكنها ترد دائما كجزء لا يتجزأ من التطور الدرامي للرواية..
وفى تاريخ الأدب العربي والعالمي سنجد نماذج قريبة الشبه من رواية محمد عباس من حيث استخدام تكتيك الإيهام لظروف سياسية واجتماعية مشابهة؛ نضرب لذلك مثلا بـ”مزرعة الحيوان” لجورج أورويل ، و كليلة ودمنة التي أجراها صاحبها على ألسنة الحيوانات، حتى لا يقع تحت طائلة السلطة الباطشة..هذه الحيلة الفنية هي بذاتها التي لجأ إليها الدكتور محمد عباس ليوهمنا أنه تلقَّى نصوص “بروتوكولات حكماء العرب” من شخص مجهول الهوية أرسلها إليه على شكل مخطوط غريب، في ظروف غريبة وبشروط مفروضة عليه هي أكثر غرابة؛ فهو لا يستطيع أن يبوح حتى عن كيفية وصول البروتوكولات إليه، إلا إشارةً أو تلميحًا.
غير أن الإيهام عند محمد عباس لا يبدأ من الخيال ليوحي بالواقع، بل من الواقع في إطار فني، يريد بذلك أن نتمثّل واقعنا نحن المأساوي، لا لِنُمَصْمِصَ شفاهنا يأسًا ثم نمضي، ولكن لكي نعقد العزم على أن هذا الواقع لا يمكن أن نستهين به أو نغفل عنه.
وفى حوار له مع صحيفة الوسط اللندنية، يكشف لنا سر الشخصية الرئيسية الغامضة التي تهيمن على المشهد خلال فصول الرواية؛ فهي توحي لحكام العرب كيف يسيطرون على شعوبهم وكيف يستمرون في السلطة؟ يقول: “تخيلت أنني عثرت على عبقري راح يعلِّم مجموعة من الناس كيف يحكمون عالمنا العربي.. والحقيقة أنني كنت أرمز به للشيطان.. وراح الشيطان يوسوس للحكام.. وكان مما وسوس به لأحدهم: كيف يخدع شعبه حتى يجعل هذا الشعب هو الذي يطالب ويلح في أن يتولى ابنه الرئاسة من بعده.
ليس الشيطان إذن هو المرجعية العليا لحكام العرب فحسب؛ ولكنه الشخصية الأساسية الملهمة والمسيطرة في هذه الرواية… وقد بيّن لهم بالأمثلة كيف ضيَّع بعضهم سلطانه، وانتهت حياتهم بالقتل أو السجن لغبائهم.. ولأنهم لم يتبعوا نصائحه ويخضعوا لحكمته، ويتنبّهوا لتحذيراته.
فالصواب في منطق البروتوكولات هو كل ما تستطيع أن تثبته بالقوة مهما كان خطؤه.. والباطل هو كل ما يقوله الآخَرُ الذى لا يملك سيفا يهددك به دفاعا عن حقه مهما كان صوابه.
الدين نفسه لا يخرج عن هذه القاعدة، وبها يمكن استخدامه والتلاعب به حتى لتكفير الجماهير بالدين الصحيح، ولكن هذا “لن يكون تحت راية الكفر، بل تحت راية الإيمان؛ فالدهماء يحتاجون للإيمان لأنه عزاؤهم الوحيد من التعاسة والحرمان، ولكن الإيمان الذي تسمح به البروتوكولات ليس هو الإيمان بالله، بل الإيمان بالحاكم، والكفر لا يعنى الكفر بالله، بل الخروج على الحاكم
